فن الرواية \ كولن ولسن




فن الرواية
الكاتب: كولن ولسون
المترجم: محمود درويش
إصدار الدار العربية للعلوم ناشرون \ الطبعة الأولى 2008- 1429هـ
يحوي الكتاب بين دفتيه 264 صفحة واثني عشر فصلا
من هو كولن ولسون
من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة

كولن هنري ولسون (26 يونيو 1931-5 ديسمبر 2013) كاتب إنجليزي ولد في ليسستر في إنجلترا.
ولد كولن لعائلة فقيرة من الطبقة العاملة. تأخر في دخول المدرسة، وتركها مبكرا في سن السادسة عشر ليساعد والده، عمل في وظائف مختلفة ساعده بعضها على القراءة في وقت الفراغ، بسبب من قراءاته المتنوعة والكثيرة، نشر مؤلفه الأول (اللامنتمي)1956 وهو في سن الخامسة والعشرين. وتناول فيه عزلة المبدعين (من شعراء وفلاسفة) عن مجتمعهم وعن اقرانهم وتساؤلاتهم الدائمة، وعزا ذلك إلى الرغبة العميقة في ايجاد دين موضوعي وواضح يمكن له ان ينتقل إلى الاخرين، دون أن يقضوا حياتهم في البحث عنه. كان الكتاب ناجحا جدا، وحقق اصداء نقدية قوية، وجعل من الشاب الفقير كولن نجما في دوائر لندن الثقافية، وصارت أخباره الخاصة تتصدر اعمدة النميمة الصحفية، أثر ذلك على كولن كثيرا وصار يتخذ موقفا من الصحفيين والنقاد، الذين سرعان ما بادلوه نفس الموقف، وهاجموا كتابه على أساس انه "مزيف " وملئ بالنفاق. رغم ذلك، لا يزال ينظر للكتاب على انه ساهم بشكل أساسي في نشر الفلسفة الوجودية على نطاق واسع في بريطانيا.
نظر إلى كولن ولسون، على انه ينتمي إلى مجموعة "الشباب الغاضبين"، - وهم مجموعة من الشباب المثقف المتمرد قدموا عدة اعمال مسرحية في الخمسينات- رغم أن قليلا جدا كان يربطه بهم من الناحية الفعلية.
كتابه الثاني (الدين والتمرد) 1957 قوبل بهجوم شديد من النقاد الذين كرروا وصفه بالمزيف والكذاب. كذلك ظل النقاد مع معظم كتبه التالية، لكن الرواج التجاري ظل ملازما لمعظم كتبه التي نالت هجوم النقاد أو لا مبالاتهم. واصل ولسن الإنتاج دون اهتمام لهجوم النقاد، وقد تنوعت موضوعات كتبه بين الفلسفة، وعلم النفس الإجرامي، والرواية. في الفلسفة اكمل سلسلة اللامنتمي: عصر الهزيمة 1959، قوة الحلم 1961، اصول الدافع الجنسي 1963 ما بعد اللامنتمي 1965
في الرواية كتب عدة مؤلفات روائية منها: طقوس في الظلام 1960، ضياع في سوهو 1961، رجل بلا ظل 1963، القفص الزجاجي 1966، طفيليات العقل 1967 يربو عدد مؤلفات كولن ولسن الآن على المائة كتاب. وقد الفت عنه عدة مؤلفات نقدية.
" اللامنتمي هو الإنسان الذي يدرك ما تنهض عليه الحياة الإنسانية من أساس واهٍ، وهو الذي يشعر بان الاضطراب والفوضوية أكثر عمقاً وتجذراً من النظام الذي يؤمن بهِ قومه.. انه ليس مجنوناً ؟، هو فقط أكثر حساسية من الأشخاص المتفائلين صحيحي العقول.. مشكلته في الأساس هي مشكلة الحرية.. هو يريد أن يكون حراً ويرى أن صحيح العقل ليس حراً، ولا نقصد بالطبع الحرية السياسية، وانما الحرية بمعناها الروحي العميق.. ان جوهر الدين هو الحرية، ولهذا غالبا ما نجد اللامنتمي يلجأ إلى مثل هذا الحل إذا قـُـيَّض لهُ أن يجد حلاً.. ! " كولن ولسن
إنه لمن الغريب أن كولن ولسن قد حقق شهرة كبيرة في العالم العربي لأنه لا يكاد يكون معروفا في بلدان أوربية عديدة ولم يعترف به ككاتب جاد أبدا. اتجه بعد كتاباته الأدبية إلى الكتابة عن التصوف والسحر وعالم ما بعد الموت. يصنف كولن ولسن في الغرب باعتباره كاتبا دجالا.
من أعماله
رجل بلا ظل (رواية) (1963) وترجمتها للغة العربية مها سلمان سعود
أصول الدافع الجنسي، ترجمة شرورو ويمق وآخرون
الإنسان وقواه الخفية
الاستحواذ
الجنس والشباب الذكي
الحالم
الشعر والصوفية
اللامنتمي، ترجمة أنيس زكي حسن
المعقول واللامعقول في الأدب الحديث، ترجمة أنيس زكي حسن
اله المتاهة
الشك، ترجمة شرورو ويمق
سقوط الحضارة، ترجمة أنيس زكي حسن
طقوس في الظلام، ترجمة فاروق محمد يوسف
عالم العناكب
فكرة الزمان عبرالتاريخ
ما بعد الحياة
ما بعد اللامنتمى، ترجمة شرورو ويمق وآخرون
موسوعة الألغاز المستعصية
الحاسة السادسة
ضياع في سوهو، ترجمة شرورو ويمق
القفص الزجاجي، ترجمة سامي خشبة
راسبوتين وسقوط القياصرة* إبحار نحو البدء (سيرة ذاتية ذهنية)
تميزت حياة كولن ولسون الشخصية بتعدد العلاقات التي أقامها في كل محيط عمل أقام فيه و لعل أبرز ما ميز أسلوبه في التفكير فكرة تبدو شاذة وهي أنه يجب على المبدع أن يوفر جميع متطلباته و حاجاته الطبيعية كي يتمكن من الانطلاق في عالم الإبداع لذلك لا تكاد تجد مؤلفا له إلا و فيه ذكر لموضوع الجنس و لو تلميحا و هذا يبرز في حياته العملية فقد تعددت علاقاته مع عدة نساء و تزوج أخيرا بالفتاة جوي الذي وصف تأثره بها في سيرته الذاتي، و هذا الزواج "الناجح" جاء بعد تجربة زواج فاشلة مع ممرضة أكبر منه في السن تدعى دوروثي..
عموما.. كولن ولسون من الأدباء الإنجليز الذين تعمدوا وصف تأثير حياتهم اليومية على كتاباتهم و قد أسس دون إرادة فعلية منه لمذهب فلسفي جديد هو مذهب الفلسفة الروائية التي تبرز خاصة في روايته "طقوس في الظلام"

كلمة المترجم

يفند كولن ولسون ادعاء موت الرواية قريبا من خلال مسح شامل ومثير للجدل لمجمل تاريخ الرواية، ويقول أن سبب هذا الادعاء هو المنعطفات الخاطئة التي سلكها الروائيون الكبار، ويدعي بأن الرواية غيرت وعي العالم المتمدن: " فنحن نقول إن دارون وماركس وفرويد قاموا بتغيير وجه الحضارة الغربية، ولكن تأثير الرواية كان أعظم من تأثير هؤلاء الثلاثة مجتمعين"
ويرى أن الهدف الأساسي من الرواية هو أن يفهم الروائي نفسه وأن يدرك ماهية هدفه بالذات، ويعتبر الأهداف التي سعى إليها روائيو القرن التاسع عشر مثل  (وصف الحقيقة) و (قول الصدق) أهدافا ثانوية.
يستطيع القاريء أن يعي تجربته عن طريق مزيج من عدسات التصوير المقربة والمكبرة، وهو النمط الذي لم يتحقق اللهم إلا على يد تولستوي، وجوهر المشكلة في رواية القرن العشرين هو أن الروائي لا يعرف ما يريده من الحياة ثم من الفن.
إن الشك والتشاؤم يقودان إلى محاولات متباينة من أجل إيجاد الحل، فهناك على سبيل المثال مبدأ تحقيق الرغبة في الروايات الأكثر رواجا في المكتبات مثل ( وداعا للسلاح ) و (يوليسيس)، وبين التجربة الواعية التي لا تؤدي إلى نمط من أنماط الرواية الرائدة، بل إلى نمط من أنماط الرواية المعبرة عن اللاإنتماء. والكتاب في نهاية المطاف ما هو إلا بيان واضح يعبر عن فلسفة ولسن المتفائلة بخصوص مستقبل الرواية.
د. محمد درويش 1985

الفصل الأول

صنعة الإبداع

بعد تجربة في التدريس يخلص الكاتب إلى أنه لا يمكن تدريس مادة الكتابة الإبداعية، بل يجب ألا تدرس أصلا، فهي "عملية شاقة كالصعود إلى أعلى التل، حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة كي يصبحوا كتابا جيدين"
نقطة مهمة يركز عليها الكاتب بعد إتقان اللغة وهي الأفكار المبتكرة، يجب أن يكون عند الكاتب ما يقوله، وعليه أن يعرف كيف يقوله، وهذا ما نسميه بلغتنا الأسلوبية.
ونقطة أخرى وهي التفكير الإبداعي بعد إتقان ما سبق أو قبله، وبرأيي أن التفكير الإبداعي يأتي أولا، ونسميه نحن الأفكار المبتكرة
وهنا يأتي باستنتاج سقراط وهو أن " المعلم ليس هو من يعطي المعرفة، بل إنه أشبه بالقابلة التي تساعد على الولادة" وذلك بعد نظريته " أن كل نفس بشرية تكنز معرفة بالأشياء جميعا ( هنا خطرت ببالي الآية وعلم آدم الأسماء كلها)وما الأمر إلا معرفة كيفية إخراج تلك المعرفة"
قد تكون لدى الكاتب أفكار كثيرة ليس لها سوى منفذ صغير ضيق واحد وهو رأس قلمه، ولكنه لا يعرف كيف يبدأ أو من يقلد، عندها سيفهم قول همنغواي: تبدو الكتابة سهلة لكنها في الواقع أشق الأعمال في العالم، إذن على الكاتب أن يسأل نفسه الأسئلة المناسبة ليكون سقراط نفسه.
ثم يستطرد " إن الإبداع ليس سرا مقدسا بل هو موهبة حل المشكلات" ، إذ إن على الكاتب أن يضع أمامه مشكلة تهمه بالدرجة الأولى وقبل إيجاد الحلول لها عليه أن يفكر كيف ومن أين يبدأ وكيف يعبر عنها، ويعتقد أن كثيرا من مناهج الكتابة الإبداعية تبحث في المشكلات الفنية وتترك المشكلة الأساسية وهي " المشكلة الكائنة في صلب الرواية دون حل"
مثالا على بعض المشكلات في الروايات رواية بروست (البحث عن الزمن المفقود)، حيث يعيد طعم غمس كعكة بالشاي مذاق الطفولة ويجعلها حقيقة ماثلة، " وهذا يعني أن الماضي لا يزال يكمن في نفوسنا وبصورة محفوظة تماما" وأنه يمكن أن نعيشها مرة ثانية كأنها طازجة، لكن استعادة الماضي بالتفصيل لا تقدم حلا،
هنا يفترض الكاتب وجود مشكلة في رواية بروست وهي استعادة لذة الماضي وذلك بالكتابة عنه بالتفصيل.. " " غير أنه لا يعيد إحداث تلك اللحظات الفجائية عندما تصبح حقيقية" ويخلص إلى " أن رواية بروست ممتعة لأنها مثال لمشكلة لا يمكن حلها بواسطة كتابة رواية خيالية" ص12
أما المشكلة التي يتحدث عنها ولسن - وسيتضح هذا لاحقا- فهي عدم وجود قضية وجودية تثير الأسئلة وتبحث لها عن حل... هذه نقطة مهمة جدا,,,
يضرب الكاتب مثالا آخر من رواية هنري جيمس ( رودريك هدسن) وهي اسم لنحات موهوب لكنه فقير جدا، يضحك الحظ له عندما يراه شاب ثري جدا من المدينة ويعرض عليه أن يأخذه معه إلى روما ويعطيه كافة الإمكانيات التي تسمح له من بإظهار إبداعاته من مرتب وورشة متكاملة وغير ذلك،
هنا يعتقد ولسن أن الكاتب فشل في التعامل مع الرواية وضيق أفقها حينما جعل النحات يعشق فتاة أخرى وينسى خطيبته ويصيب راعيه بخيبة أمل، إلى أن ينتهي به المطاف إلى السقوط في جرف. كان ولسن يريد من الكاتب أن يفجر تلك الإبداعات بتلك الإمكانيات رغم اعترافه أن ما حصل كان واقعيا، ويعتقد أنه بسبب هذا صارت الرواية مملة، ويتساءل: ما الذي حدث لكل تلك الإمكانيات؟
فهمت أنه يقصد بالإمكانيات الأمنيات أو الآمال...
ويجيب بأن البداية قد تكون مبهرة للكاتب، تعطيه شعورا بالحرية كأنه" يسبح في بحر دافيء، لكنها ليست حرية كاملة، إن هذا العنصر كالبحر له قوانينه الخاصة به"، لذلك عند الغوص فيه أو اللعب يجب التزام أسلوب خاص، " إن أوج الشعور بالحرية يكمن في الصفحات الأولى، ثم تصبح واعيا وأنت تسترسل في القراءة بالقوانين والأنظمة" " ( وهذا هو الحد الذي يفقد فيه المبتدئون حماسهم ويستسلمون، أما الكاتب المجرب فإنه يرسل حسرة ويبدأ من جديد إذا ما شعر أنه قد وقع في الفخ)"
إذن ولسن يعتقد أن هنري جيمس قد وقع في الفخ...
الفخ الذي يقصده ولسن هو اللامنطقية والتناقض في تصرفات الشخصيات، حيث أن الكاتب عندما يرسم شخصية يعمل لها حدودا نفسية تضبط تصرفاتها، وهنري جيمس جعل شخصياته تفعل ما هو ليس مرسوما لها نفسانيا، وعندما فطن لذلك حاول تطبيق نفس الفكرة برواية أخرى (صورة سيدة) كانت أفضل بكثير من ( رودريك هدسن)، " غير أن جيمس يخفق في الإجابة على السؤال المطروح وهو ما الذي يتحتم على رجل شاب ( يواجه الحياة) القيام به لفهم جميع هذه الاحتمالات؟ إن بطلته تتزوج من رجل آخر، غير أنها تقرر عند نهاية الكتاب أنه طالما هي التي اختارت ذلك، فما عليها إلا أن تتحمل العواقب... ومرة أخرى تصبح واعيا (( واعتقد أنه يقصد بالوعي هنا الصدمة أو الملاحظة)) بما يمكن أن نطلق عليه قانون تناقض الاحتمالات في الرواية"
يقول أن الروايات التي تنشأ عن مشكلة واحدة قليلة مثل ( الحرب والسلام) و (يوليسيس)، ويضيف "لقد كان جيمز مصيبا عندما أشار إلى هذا النمط من الروايات على أنه هلامي" ويعتبر مثل هذه الروايات استثناءات، ويقول: انتقل إلى جوهر معظم الروايات وستجد هناك علامة استفهام، وينطبق هذا الأمر على القصص والتي تعتبر روايات مصغرة.
على الكتابة أن تتعدى الوصف والتصوير بلغة مكثفة، إلى الشكل الخاص والفكرة وأن تثير الأسئلة.
عندما تبدأ القصة من المشكلة يصبح فيها حركة حقيقية إلى الأمام، وعند توضيح أبعادها ويكون فيها حبكة أيضا تكون ناجحة فكريا، إذن على القصة أن تعكس رغبة ورؤية بإحساس عال.
" قال شكسبير: إن الفن يحمل مرآة تعكس الطبيعة، إلا أنه من الأدق القول إنه (الفن) مرآة يرى المرء فيها وجهه هو، ولكن لماذا يريد المرء فيها وجهه هو؟ لهذا السبب المهم: لأنه حتى وقت رؤيته وجهه لا يعرف من هو والقصة أو الرواية هي محاولة الكاتب لإحداث صورة ذاتية واضحة"
وهنا يضرب مثلا على الإبداع القصصي القصة القصيرة (المرآة) لكاتبها (ماشادو دي أسيس) ويستخلص منها " أن الذات الإنسانية تعتمد اعتمادا كبيرا على الآخرين.. فنحن نرى أنفسنا وقد انعكسنا في مرآة أعينهم" وأن الإنسان لا يتأثر بآراء الناس السلبيىة إلا إن كان مهيأ من الداخل لذلك.
" وعندما يجلس كاتب أمام حزمة من الأوراق وقلمه بيده، فإن السؤال الذي يواجهه ليس ببساطة (ماذا أكتب؟) بل (من أنا؟  ماذا أريد أن أكون؟) وهدفه من الكتابة مرتبط بإحساسه بالذات، وإذا لم يكن لديه الإحساس الواضح بالذات، أو كانت صورته الذاتية مشوهة، فإنه يستطيع ملاحظة العالم من حوله ووصفه بدقة، لكنه سيكون عاجزا عن إحداث أي شيء عظيم. وتغدو قصصه هلاما واهيا خاليا من الفقرات الداخلية للهدف"
تكشف روايات شو الأولى عن تبصر مدهش في عملية إنشاء الصورة الذاتية. ويشرح الكاتب كيف أن شو كان يعتقد أنه سيصبح رجلا عظيما عندما كان شابا ((قناعة ذاتية وايحاء نفسي) وأنه كان يمتلك الموهبة والراعي حيث احتضنته قريبته الروائية الناجحة
من هنا نستخلص عناصر الابداع: الرغبة والموهبة والراعي
يتحدث ولسن عن رواية شو الأولى ( الفجاجة) وهي تقريبا سيرة ذاتية كحال باقي الكتاب المبتدئين، لم يعجب بالعنوان ويعتبره يبعث على سوء الفهم، وأنه قد خرج عن مسار الرواية بإدخال شخصيات ثانوية كثيرة، وأنه كان أكثر من متفرج (أي بطل الرواية)، يعني لم يكن فاعلا ومؤثرا فيها.... بسبب أنه لم يكن يملك ذاتية واضحة آنذاك،
 لكنه بعدما عمل ولاحظ الناس اختار بطل روايته الثانية (عقدة غير معقولة) شخصا واعيا فاعلا مهندسا مخترعا.
ويخلص في النهاية إلى أن شخصية البطل هنا أفضل من شخصيته في الرواية السابقة ولكن خصائصه لا تزال ليست بالمستوى الذي يزود الروائي بالفعل المثير. وعندما يتصرف البطل بواقعية أكثر من اللازم في نهاية الرواية تفشل، "وتبدو المشكلة الأساسية واضحة تماما الآن، فهو يريد إحداث نموذج من البطل خاصا به يرتكز على نفسه، والمشكلة أنه طالما لا يدري ما يفعل أو لا يعرف إلى أين يتجه، فإن خصائصه تبدو له سلبية"
وبما أن شو يتمتع بواحدة من أهم خصائص العظمة الأدبية وهي المثابرة، فقد حاول من جديد بعد أن أخفق مرتين، وإذا كان نبوغه العلمي يفتقر إلى الإقناع فليجرب نبوغه الأدبي، وهكذا خرجت روايته الثالثة (الحب بين الفنانين)، لكن المشكلة أن القفلة أو النتيجة جاءت في منتصف الرواية فاضطر لملء أكثر من 100 صفحة بعدها بأحداث ليس لها علاقة بصلب القصة.
" وهنا يعترف شو بهزيمته، فقرر في مجازفته الرابعة أن يتخلى عن محاولته إيجاد بطل برناردشي، فكتب رواية (مهنة كاشيل بايرن) التي تتحدث عن ملاكم يهرب إلى أستراليا ويصبح هناك ملاكما محترما،وبعد عودته إلى إنجلترا يقع في هوى وريثة غنية تعرف ما تريد، كانت قصة غرامهما غير تقليدية لكنه أنهاها تقليديا بزواج سعيد. وقد جعل هذا الكتاب من شو روائيا قريبا من النجاح، إلا أنه يعتبر خطوة إلى الوراء فيما يتعلق بالمشكلة التي يحاول أن يجد لها حلا"
 ثم  في السادسة والعشرين كتب رواية ( رجل بلا قلب) والتي نشرت تحت عنوان (اشتراكي لا اجتماعي) بعد أن حضر اجتماعا اشتراكيا وانضم إلى الجمعية الفابية وصار مجادلا من الطراز الرفيع. كانت الرواية انعكاسا لنفسه، وكان بطل الرواية بحكم مبدئه وفكره حتى لو كان مجرد كلام، بعكس البطل في رواياه الثلاث الأولى، ويعتبر ولسن هذه الرواية من أخف الروايات، وأن شو عمل حبكة عبثية وذلك باكتشاف زوجته له أنه يعمل بستاني في إحدى مدارس البنات التي جاءت إليها برفقة طالبة قريبة لها في يوم الخطابة، كان قد هرب منها وتنكر وعمل بستاني كونه لا يستطيع أن يحب امرأة بل إنه ضد الرومانسية بسبب فكره الاشتراكي، لكنهما يتفقان على العودة معا... ويستمر الكتاب بالقفز على عبثية مرحة ((ربما هنا بداية شو الساخر)، إلا أن ما فعله شو أنه حول بطله السلبي إلى إنسان يستطيع القاريء أن يجد فيه ذاته.
" والذي يتضح أن شو تعثر في نهاية الأمر بحيلة الربط بين ضدين لا يمكن التوفيق بينهما وهما الرومانسية والرومانسية المضادة" حيث جعل من بطله الهارب من الرومانسية يغازل بنات الثانوية دون الوقوع في الحب.
لم يستوعب شو ذلك الدرس القاسي فقام بعد عدة سنوات بكتابة رواية نشرت بعد موته كرواية (ناقصة) ارتكب فيها كل الأخطاء السابقة، كتب منها خمسين صفحة ثم تركها كونه أدرك أنه أوقع بطله صريع الإغواء مع أنه ليس من ذلك النوع... يعني جعله يفعل ما ليس من خصائصه التي عرفها بالبداية.
"لقد كانت تلك آخر محاولة يقوم بها لكتابة الرواية، وكان الدرس الذي تعلمه من ذلك قد تجاوز كل شيء، إذ يجب أن ينبع البطل الفعال من صورة الكاتب الذاتية، وأن يعكس صراع الكاتب نفسه وإحساسه الخاص بالهدف والذات التي هي فوق كل شيء. ففي (اشتراكي لا اجتماعي) لم يكتشف نفسه وحسب، بل أوجد نفسه. وإذا ما توخينا الدقة فإن الاشتراكية زودته بـ (روح خارجية) وقوة إيمان، ثم كان هناك أمر آخر وهو إيمانه بالإنسان المتفوق وقوة الحياة. وقد أقام لذلك الدرس وزنا في المسرحيات التي بدأ كتابتها بعد مرور بضع سنوات. كان أبطاله المضادون للرومانسية (تانر) في (الإنسان والإنسان الفائق) وهيغنز في (بجماليون) واضحين يتمتعان باعتقاد راسخ. إنك لا تستطيع كتابة مسرحية مؤثرة فعلا أو رواية عن شخص لا يعرف ما يريد"
إلى هنا تنتهي دراسة بدايات برنارد شو حيث ركز ولسن على معرفة الذات ودافع البطل وعدم خلق تناقضات في الأحداث أو الشخوص.

مثال آخر هو كاتب أمريكي مهم وليس مشهورا في حقبة الثلاثينات وهو ناثانيل ويست، كتب روايتين ولم يكمل الثالثة لأنه مات في حادث سير، وهو سريع الملل والسأم، وسبب عدم شهرته هو أخطاؤه في روايتيه الأساسيتين ( الآنسة لونلي هارتس) و (يوم الجراد)، الكتاب الأول يمثل سلسلة من صور موجزة تؤكد على غباء الحياة وعبثيتها وخلوها من المعنى، تحقق الرواية هدفها الأساسي وهو نقل الإحساس بالمأساة والاحتجاج ضد الحياة، لكن المشكلة أنه لا يمكن إنتاج عمل أدبي ضخم من مجرد الإحساس باللامعنى واليأس، وكانت هذه انعكاسا لتبرم ويست من الحياة، وكانت رواية (يوم الجراد) التي تتحدث عن الفقراء واليائسين في هوليود تحمل نفس الثيمة، فالمشاهد المضجرة تبعث على الضجر، واليائسة على اليأس، والمملة على الملل، وأمام كل هذه السلبية لا يوجد قطب موجب واحد، وهي نفس مشكلة شو في بداياته وهي الافتقار الكامل إلى الروح الخارجية والصور الذاتية، وقد أدرك هذا الأمر وحاول معالجته في روايته التالية التي مات قبل أن يكملها، وكان موته بحادث سير مثل كتبه نتيجة افتقاره إلى الصورة الذاتية، وعلى العكس من شو لم يكن لدى ويست الوقت لتطوير صور الذات، رغم نزاهة اعماله وتألقها الفني.
" وقد وضح شو أخيرا الدور الذي تلعبه صورة الذات في كافة الفنون في (العودة إلى ميتوشالح): " إن الفن هو المرآة السحرية التي تقوم بعكس الأحلامغير المرئية وتحويلها إلى صور مرئية، فأنت تستخدم المرآة لترى وجهك، والعمال الأدبية لترى روحك""
وهذا يعني أن الرواية هي في الأساس نوع من مرايا الأحلام يحاول فيها الروائي أن يعكس نفسه الجوهرية. ويختم شو الفنان حديثه قائلا: لا تستطيع أن تحدث غير نفسك.
السؤال الذي يجب أن يجيب عليه كل من يريد أن يصبح كاتبا هو ليس ( من أنا؟) ولكن ( من أريد أن أكون؟) فإذا كان باستطاعته تحويل نفسه خياليا فإنه بعد ذلك يستطيع أن يكون أي عظيم.
هناك ألف طريقة لاستخدام صورة الذات، فمنها المباشرة كما في رواية (اشتراكي لا اجتماعي) وفي رواية ( هادريان السابع) يسأل فريدريك رولف نفسه وهو المصاب بداء العظمة والمنحرف جنسيا: ماذا أريد أن أكون؟ ويجيب: البابا.... والنتيجة تحفة أدبية ثانوية.
في (الحرب والسلام) يقسم تولستوي صورته الذاتية بين اثنين متناقضين تماما.
في (الجريمة والعقاب) يتضح أن القاتل يجسد مظهرا للكاتب، وهذا لا يعني أنه قاتل أو فكر بالقتل.
وأخيرا فعندما ينجز كاتب صورة واضحة للذات فإنه ينأى بها بعيدا عن أعماله، فصورة فلوبير غير موجودة إطلاقا في رواية (مدام بوفاري)، ولكن لا يمكن كتابة مدام بوفاري إلا بواسطة رجل وهب نفسه للإبداع الأدبي.
هناك فرق بين الهدف الداخلي والهدف المفروض عليك من الخارج، فالاستيقاظ صباحا من اجل الذهاب للمدرسة أو العمل والدراسة من أجل النجاح ليسوا أهدافا داخلية بل مفروضة. "إن لكل شخص هدفا ما حتى ولو كان مطمورا تحت السأم والعادات، إن كل فرد يريد شيئا ما، وما عليك إلا أن تواجه الموت المحدق بك لكي تدرك أن لديك صلة وثيقة بالحياة، وعند مواجهة الأزمات ينهض الهدف المطور كأنه فينيق. وإظهاره إلى العلن هو جزء من مهمة الابداع، وربما تساعد الكتابة على ذلك.

الفصل الثاني

صائغو الأفكار

بدأ شو الكتابة عام 1880 بينما تعود بدايات الرواية الإنكليزية إلى ما قبل ذلك بمئتي عام تقريبا، ولم تكن القراءة منتشرة آنذاك إلا بين الأثرياء ونساء الطبقة الوسطى، بدأ ذلك بمجلة يومية ظهرت في 1711، كانت تحوي مواضيع شعبية تهم المواطن العادي بشكل عام، يعتبر ولسن صاحبها أديسون وستل مبتكر الرواية الإنجليزية، غير أن معظم النقاد يمنحون ذلك إلى ديفو الذي ظهرت روايته (روبنسون كروزو) بعد ذلك بثماني سنوات، كان ديفو قد اعترف بتأثره ب"حي بن يقظان" لابن طفيل غير أن ولسن يغفل هذا ( رأي المترجم)، لكن وحتى عام 1740 لم تكن هناك روايات بالمعنى المعروف بل عبارة عن قصص طويلة، حتى وصلت باميلا، كانت رواية تبلغ مئتي ألف كلمة، من جزئين، كانت أهم ميزاتها اكتشاف أن الخيال قادر على الإبحار، وكان ذلك اكتشافا هائلا في ذلك الوقت يوازي اكتشافنا التحليق برفرفة الذراعين في هذا العصر. وأنوه إلى أن الروايات الروسية كانت موازية تقريبا.
(((كان ذلك كلام ولسن الذي يبدو أنه لا يعلم أو يتجاهل حضارتنا وتاريخنا، لكن مشكلتنا أننا لم نخرج من العصور الوسطى بعد، بغض النظر عن الأسباب، لكن متى تهيأت الأسباب سيعرف هؤلاء من ملك الحضارة والأدب والرواية الحقيقي، أنا لا يبهرني أي شيء غربي، وأزعم موقنا أننا أقدر منهم في كل شيء على الإطلاق، متى اطلقت أيادينا وعقولنا)))
ثم تبعت باميلا روايات مضادة وموازية، بعد أن أثارت الكثير من الجدل ولاقت الكثير من الرغبة أيضا، ويقول ولسن أن الثورة الفرنسية والثورة الصناعية جاءتا بعد أن غيرت ثورة الخيال أوروبا بعد ذلك بخمسين عاما.
(((وهذا معناه أن تحرير العقول يأتي أولا... وكان فعل القرآن فينا أكثر من هذا بكثير، لولا الطمع والجشع الذان غزيا الطريق..)))
كانت الكتابات قبل باميلا عبارة عن يوميات وسرد أحداث واقعية ثم بعدها صارت تعبيرا عن المشاعر وتأملات وأفكار وآمال...
كانت كتابات ريشاردسن (كاتب باميلا) ثورة في عالم القصة، حيث ذكر جونسن أن كل من يقرأ لريشاردسن من أجل القصة سيشنق نفسه، وهذا صحيح حيث أن الفعل الخارجي قليل جدا حيث تقع احداث الدراما داخل الشخصيات
انتعشت الرواية بعد ذلك وبرز العديد من الكتاب إلا إن أيا منها لم يبلغ شهرة باميلا لأن سرها مع ريتشاردسن وحده، وهذا ما أثبته في رائعته (كلاريسا هارلو) في 1748 أطول الروايات في عالم الأدب، إذ تبلغ ضعفي باميلا. ولا يوجد فيها حدث تقريبا، فهي تدور حول فتاة فاضلة من الطبقة الوسطى يجرها إلى مبغاه داعر أناني يفرض عليها الحصار ويسقيها مخدرا ويغتصبها، وتموت كلاريسا من العار والذل الذين لحقا بها، كما يلقى مغتصبها مصرعه في إحدى المبارزات، وتستطيل هذه الحبكة البسيطة إلى نصف مليون كلمة، وكان لا بد أن يصيبها الفشل بفعل تركيبتها، لكنها نجحت أكثر من باميلا. وقد عبر عنها أحد النقاد المشهورين بقوله: رواية تدور حول عالم نطل عليه من ثقب الباب. كان ريشاردسن يملك قدرة هائلة على التشويق الشهواني رغم أنه متزمت.
قبل صدور كلاريسا كان هناك كاتب تنبه لسر ريتشاردسن فأصدر رواية عن فتاة ريفية بريئة يطاردها الذكور، وضمن الرواية التي بيعت بالكامل وصفا مفصلا لممارسة الحب، حصل على واحد بالمائة فقط من ريع بيعها، مما أصاب الحكومة بالخجل فمنحته راتبا تقاعديا شرط عدم تأليف كتاب داعر مرة ثانية، وكان قد تخطى الأربعين حينها.
كان الكتاب (فاني هيل) ثوريا ككتب ريشاردسن حيث كانت فتحا جديدا للخيال الإنساني وإن كان بطريقة داعرة.
" وعلى الرغم من ذلك ما عليك إلا أن تقارن بين كلاريسا و فاني هيل كي تدرك جوهر عظمة ريتشاردسن، إن ما يثير هو جدية كلاريسا، حيث لها الخصائص الواقعية والمأساوية ذاتها الموجودة في روايات دستوفسكي، بالرغم من كثافتها، وهي أسوة بالآداب العظيمة كلها تعلم البشر أن ينظروا بجد إلى أنفسهم وحياتهم، وهذا هو العنصر الموجود لدى ريتشاردسن ولم يتمكن معاصروه تقديمه. على الرواية أن تزود القاريء بتجربة أوسع من الواقع وأن تمنحه إحساس عيش الأحداث"
في العام 1760 ظهرت رواية جان جاك روسو (جولي أو إيلويز الجديدة)، وإن كانت باميلا ثورة بركانية فإن جولي كانت هزة أرضية، تهافت الناس عليها بشكل منقطع النظير وحققت له شهرة واسعة. كانت رواية مروعة أكثر من كلاريسا، استخدم فيها نمط ريتشاردسن وثيماته من حيث نمط الرسائل ونغمة روسو الأخلاقية مكثفة كريتشاردسن، بيد أن الأمر هنا يجري بين حبيبين. طبعت جولي سبعين طبعة قبل العام 1800، ( وقد انتهز روسو الفرصة لإدراج مقالات طويلة عن نظرياته التعليمية والاجتماعية).
((نلاحظ أن المشترك في الروايات الثلاث كسرها للطابوهات والأعراف والتقاليد وإتيانها بالجديد في الخيال والتفكير وإظهارها للمسكوت عنه بعد عنصر التشويق الجنسي الذي هو من صلب الطبيعة))
قدم روسو شيئا فريدا في الأدب حتى ذلك الوقت؛ حالة من الحزن والشوق الشديدين وحالة رومانسية عظيمة، إن ريتشاردسن علم أوروبا كيف تستغرق في الحلم بينمها علمها روسو كيف تفكر؛ فقد طرح أسئلة فلسفية ولم تكن صريحة.
ثم جاء غوته الألماني برواية تدعم روسو من ناحية الأسئلة الفلسفية، في قصة حب مأساوية النهاية، وكان لها تأثير عظيم. وبهذا يكون روسو وغوته قد رسخا مفهوما جديدا للإنسان ككائن يقف وحيدا خارج المجتمع وكنموذج لأحد الآلهة في المنفى.
ثم جاءت مسرحية اللصوص ل شيلر التي تعتبر دراما عنيفة ومبالغ فيها عن الاحتجاج ضد الطغيان - طغيان الحياة نفسها- وضد افتقار الإنسان إلى الحرية الروحية. " وقد اقتبس نيتشه ما قاله له عسكري ألماني: لو علم الله أن شيلر سيكتب اللصوص لما خلق العالم".
يقول ولسن إن حبكتها غير معقولة ونهايتها سخيفة، لكن اللصوص كانت أعظم الكتب تأثيرا على الإطلاق في القرن العشرين، إذ ألهمت لغتها المجنونة حول الحرية أجيالا من الرؤيويين والحالمين والثوريين، ما من قانون يحدث إنسانا عظيما بل الحرية تفعل ذلك.
وبعد ذلك بعشرة أعوام قامت الثورة الفرنسية، ما بين باميلا واللصوص أربعين عاما غيرت مجرى التاريخ بهذه الروايات الأربع....
ثم تنوعت موضوعات الرواية والقصص، ومع اقتراب القرن من نهايته نقل إش. جي. ويلز قراءه إلى القمر... وتبين أنه ليست هناك حدود للخيال البشري...
ثم جاء زعيم الوجدانيين ديكنز فنجح حيث فشل زعيم المتمردين شيلر إذ فهم أن الحرية ظرف يسمح لنا بالارتقاء..
"لقد حاولت أن أبين أن نشوء الرواية كان يرتبط ارتباطا وثيقا بقضية الحرية الإنسانية والنشوء.  ويبدو ان معظم النقاد يتفقون على ان الرواية بدأت بالانهيار منذ مطلع القرن العشرين، ولا يبدو أن هناك من حاول ان يبين بالضبط ما هو السبب في وصول الرواية إلى نهايتها، وهذا ما يجب أن ننظر إليه عن كثب في الفصل القادم"

الفصل الثالث: الانهيار والسقوط


نشر ريتشاردسن بعد كلاريسا رواية (سير شارلز غرانديس) في سبعة مجلدات وكانت أقل شأنا من سابقاتها، لكن ما يميزها أنها كانت صورة ذاتية مثالية لريتشاردسن  الذي يعتبر أول من استخدم إسقاط الصورة الذاتية.
ريتشاردسن كان يسلط عدسته على العالم الخارجي بينما غوته كان يعامل قلب بطله باعتباره مرآة يسلط العدسة فوقها مسجلا بذلك كل ما تعكسه، وهذا ما يمنح الرواية نوعا جديدا من الوحدة والعمق، أما العالم المنعكس في مرآة صغيرة فسرعان ما يصبح مملا.
عندما تصبح الرواية ذاتية أكثر وشخصية أكثر تفقد حركتها الواضحة إلى الأمام، ورغم أن ولسن يعد رواية (أوبرمان) لإيتيان دي سينانكور طويلة بلا حبكة إلا أنه يقول عنها رائعة، وقد قادت هذه الذاتية والشخصية إلى روايات خالية من الحبكة تدور كلها حول مشاعر البطل
يعرج هنا على الرواية الألمانية التي غاصت في الرومانسية والتحليق الخيالي والفنتازيا، مما جر إلى الاصطدام بالعالم الواقعي وأخذت الأرض الموعودة تبدو كسراب.
فرنسا كانت تملك تراثا آخر وهو الواقعية النفسانية، وهو اتجاه مغاير تماما، كانت أول رواية عام 1678 ، كانت رواية (برنسيس دي كليفس) ل(مدام دي لافاييت) مؤدبة ومحتشمة، وبعد ذلك بقرن جاءت رواية ( العلاقات الخطرة) التي هزت باريس، وهي تعالج بصورة تقرب من العلاج الإكلينيكي الغواية كوسيلة لقضاء الوقت، وهذا تجرؤ في عصر الرومانسية على إحداث تراث من الواقعية القينية ( ساخرة) ويعزو بعض النقاد شهرتها إلى كشف الغطاء عن المجتمع الفرنسي.
وعندما انهارت الرومانسية وتحولت إلى فترة انحطاط حزينة للهزيمة، استعادت الواقعية أو الطبيعة قوتها وأصبحت ببطء التراث المهيمن في تاريخ الرواية، وكان الفرنسيون هم رواد الواقعية، فنشر بلزاك رواية (البوم) الواقعية التي تدور أحداثها أيام الثورة الفرنسية، وهي أول جزء من أجزاء (الكوميديا البشرية) والتي بلغت إحدى وتسعين رواية عندما مات بعد ذلك بعشرة أعوام، وقد اعتبر الكثيرون بلزاك أعظم الروائيين على مر الأزمنة، لأنه يجعل القاريء يحس بواقعيتها التامة، لكنه كان مفرطا فيها وينظر لها من علو، هو أنشأ في رواياته عالما خاصا ويعتبر ولسن كافة أعمال بلزاك محاولة في إبداع صورة للذات ولإقناع العالم أنه كان مبدعا وأن المبدعين يشبهون الآلهة. بعد عدة مجلدات من القراءة تدرك عدم المنطقية الواقعية فيها، لم تحقق رواياته ذاك النجاح الهائل الذي حققه دوماس أو هوجو، ونجد هنا التناقض الذي دمر الرومانسية وبدأت معه الرواية تسير على طريق الانهيار الطويل والبطيء: وهو الإيمان بأن الإنسان إله مرتبط بتشاؤم مدمر للذات.
يرتكز الأدب مثله مثل الطبيعة على مبدأ البقاء للأصلح، والمتشائم غير مزود بأسلحة البقاء بشكل مثالي.
بعد سرد حكاية رواية (مدام بوفاري) يخلص إلى القول: إن الحديث عن التجرد الفني هو كلام مضلل، فالكاتب عندما يتخذ عينة سيئة أو حسنة ويقدمها للناس يقول لهم ضمنيا أن كل البشر في نفس الظرف من هذه النوعية.
الأسلوب التوثيقي هو الترياق الكامل للرومانسية، حيث يوجد ما يضمن أقوى تأثير فني وذلك بالكتابة عن الفسق والفجور والبؤس الإنساني، وفي الوقت ذاته تقدم هذه الموضوعات بواقعية تبلغ حدا يجعل كل من يعترض متهم بأنه أساء الفهم.
الغرض من الرواية قبل تقديم متعة للقاريء مساعدة الكاتب على هضم تجربته.
عندما يفقد الكاتب الاتجاه الفني يتحطم أدبيا.
تستمد الرواية قوتها من صراع الروائي مع المشكلة، وحالما يتوقف الصراع يبدأ بالموت فنيا.
نستطيع الآن تحديد السبب الذي دفع بالرواية إلى الانهيار؛ فقد بدأ الأمر بأن منحت بعدا جديدا في الحرية الإنسانية، وتم التعبير عن مشكلة الحرية تعبيرا واضحا، لكن ماذا سنفعل بالحرية بعد الحصول عليها؟ هنا المشكلة... لم تكن الأهداف سامية نبيلة.
 ثم جاء الواقعيون، وكان لأعمالهم من الإقناع مما جعلها تبدو وكأنهم سينجحون حيث أخفق الرومانسيون، ولكنها بحلول العام 1900 تحولت إلى مرارة وعلقم، إذ أية فائدة ترجى من إظهار طبيعة تعج بالفوضى واللامعنى؟
تنقسم الروايات إلى قسمين، قسم يصف العالم والآخر يحاول تفسيره. الرواية الإنجليزية كانت تنتمي للقسم الأول لذلك كانت الانهيار أقل وضوحا فيها. وكان الانجليز أقل انبهارا بالتجريب.
بحلول أواخر عشرينيات القرن العشرين أخذت الحيوية تتلاشى، وبدا واضحا أن الروائيين الكلاسيكيين لم يعودوا يملكون ما هو أكثر للتعبير عنه، بينما ظهرت مجموعة من الشباب الروائيين التجريبيين أعادت الحيوية للرواية، لكن بحلول 1940 تلاشى الأمل إذ مات لورنس وسقط جويس في شباك اللغة في (سهرة فنيغان) أما هكسلي فقد أخذ يكرر نفسه، ولم يشك أحد في أن الرواية وصلت إلى نهاية المطاف كشكل من الأشكال الأدبية.
أما بالنسبة للرواية الروسية فإن نشوءها وسقوطها كانا هائلين، وهم آخر من وصل إلى الساحة الأدبية جراء القمع السياسي، ظهر الأدب الروسي إلى حيز الوجود برواية بوشكين (يوجين أونجين) سنة 1833، كانت رواية شعرية تعتبر عملا رومانسيا منتفخا جدا متأثرا ببايرن. كان الروس قد أمسكوا بزمام المزاج الأوروبي في اليأس الرومانسي توا، إذ بعد موت بوشكين بخمسة أعوام ظهرت اول رواية روسية عظيمة وهي (الأرواح الميتة) لغوغول عام 1842. وهي على غرار أعمال ديكنز إذ تظهر معايب ومثالب وكسل سكان الأقاليم الروس وضعفهم، كما أنها عبدت الطريق أمام دراسات دقيقة عن السأم واللاجدوى في الأقاليم.
وتظهر رواية (أوبلوموف) لغونشاروف شابا مثاليا نبيلا لا يقدر على فعل شيء فيغرق في الخمول ويصبح بليدا، وتظهر رواية (أسرة كوليفيلوف) الوجه الآخر للثراء وهو انهيار إحدى الأسر من ملاك الأراضي الماديين تماما.
بدأ العصر الذهبي للأدب الروسي حوالي 1850 بمغامرة تولستوي ودستوفسكي وهما أعظم الروائيين في الأدب العالمي. هما من طراز المفسرين وليس الوصفيين. بل إن تولستوي كان أول روائي يطرح بكلمات قليلة الأسئلة: (من أنا؟) و (لم انا هنا؟) و (ما هو الهدف من الوجود الإنساني؟) حيث يسأل أبطال رواياته أنفسهم هذه الأسئلة. كانت حلول تولستوي تقترب من حلول روسو وهي العودة إلى البساطة..  لكن كتابة تولستوي تتسم بعمق أكبر، فقد اهتم بحل مشكلة الوجود الإنساني مما أدى به إلى تزايد هوسه بالأخلاق حتى نهاية عمره. حتى إن الحيوية اختفت من روايته (البعث)
عرضت مشاكل المصير البشري والحرية والخير والشر بوضوح كبير جدا في روايات دستوفسكي. لسوء الحظ كان دستوفسكي نفسه عصابيا محملا بالخطيئة، وهو أمر يضر برجل يكتب عن مشكلة الحرية، إذ يعني هذا أن لأبطاله دافعا لإغراق أنفسهم من خلال المعاناة. تنتهي روايته (الأخوة كارامازوف) بتناقض مفاده أن الإنسان البريء مستعد لتحمل حياة السجن لأنه يشعر بالإثم جراء كراهيته لوالده الذي يبعث على الاشمئزاز. اقترب دستوفسكي أكثر من أي روائي آخر من فهم القضية الأساسية في الحرية الإنسانية، إلا أنه يميل إلى اعتبار المعاناة هي الجواب الأخير.
فيما بعد كتب الروائيون الروس روائع غير أنها تشاؤمية لا تصل لحل، وكان معظمها تشاؤميا.
مع مجيء النظام السوفيتي توقف الروائيون الروس عن التفسير وصاروا وصفيين. وصار مكسيم غوركي النموذج للجيل الجديد، وهو كاتب قصة قصيرة ممتاز تركز اهتمامه بشكل دائم على الثورة الاجتماعية، لكن له أخطاؤه وكانت أعماله ذات وجهة واحدة بفعل النظام السياسي، وتندرج ضمن تاريخ الاشتراكية وليس الأدب، وهذا الأمر ينطبق على معظم الروائيين الروس.
توجد رواية وحيدة اسمها ( الحسد) ل يوري اوليشا وقد منعه السوفيات من كتابة روايات أخرى كونها كانت توضح المشكلة التي كانت تؤرق الكتاب الروس منذ اوبلوموف: الامتعاض الطبيعي للشخص المثالي من (العالم الواقعي).
وفي النهاية أكدت الرواية الروسية على أن مشاكل الوجود الإنساني أهم من مشاكل العدل الاجتماعي، وحتى أن مصير الفرد أكثر أهمية، وبهذا نعود إلى ما سلم به روسو وشيلر وغوته مقدما. وبعد قرنين من التطور فإن الرواية وصلت إلى حيث بدأت...

الفصل الرابع: أما الحياة...



هناك شكل من أشكال الوجود أقوى وأكثر متعة من ذلك الوجود الذي تقدمه التجربة اليومية، وهو أن الخيال الذي يعمل من خلال الأدب يمكن أن يعطينا شكلا من أشكال التجربة البديلة التي تكون مفضلة على العالم الواقعي من عدة نواح، فهي تشحذ الهمة وتعطي التفاؤل والرضا.
ريتشاردسن علم الكاتب حيلة استعمال الرواية كمرآة يرى فيها وجهه بالذات. ليس هدف الروائي إيجاد صورة ذاتية تعبر عن سيرة حياته بالذات، بل إسقاط صورة ما يريده.
التجربة الفكرية ذات وجهين لكنها تمنح العمل مصداقية، ويمكن اعتبار الرواية طريقة لاكتشاف قوانين العقل البشري من خلال التجربة الفكرية.
كثير من الأشياء المادية والمعنوية تقيدنا، لذلك تعطينا الأحلام نوعا من الحرية.
التجربة الفكرية وأحلام اليقظة تقدمان نوعا من الحرية الفكرية
إذن فالهدف الأساس من الرواية ارتبط بالإحساس بالحرية. فصارت مشكلة الحرية أحد الموضوعات الرئيسية في الرواية. يقول شيلر: الحرية وحدها هي التي تصنع العمالقة).
يستطيع المصور المحترف أن يركب عدسة ذات زوايا متسعة داخل آلة تصويره ويصور مشهدا بانوراميا بأكمله. ويجب الربط بين العدستين الضيقة والواسعة الرؤية. وهذا الأمر أتقنه غريزيا روائي واحد هو تولستوي. وهو أول روائي عظيم يدرك الطبيعة التناقضية للحرية.
يشرح ولسن بعض مشاكل الروايات، بدءا من الحرب والسلام (الرواية التي تكمن عظمتها في عمق رؤيتها للحرية تنتهي بالتشاؤم مما يظهر أن المبتكرين العظام يمكن أن يكونوا مفكرين مرتبكين ارتباكا هائلا)،
ثم رواية (جان تريستوف) الهائلة لرومان رولان: بعد أن وصل البطل إلى قمة الشهرة ونال كل ما يريد لم يستطع إنهاء الرواية، فيكتب ألف صفحة تعتبر هبوطا مفاجئا وطويلا.
ونفس المشكلة في الرواية الحائزة على جائزة نوبل (كريستين لافرانز داتر) للكاتبة سيغريد اندسيت حيث تفشل في التخلص من فخ الزمان، وبعد أن تنال البطلة حريتها وكل ما تريد تنتكس ولا تفعل شيئا.
أما رواية (قصة الزوجتين العجوزين) لأرنولد بينيت فموضوعها قوة الزمن المدمرة، يقدم الكتاب إحساسا بالحزن والخراب وأن لا جدوى من الوجود الإنساني، وهي نهاية ميتة نوعا ما.
لا يستطيع الكاتب أن يكون نزيها تماما ما عدا قلة من الكتاب الجيدين، فهو يدافع عن أفكاره بطريقة ما، فيجعل السيئين بشعين جدا ويجعل الفاضلين خيرين جدا، يعني إما ملائكة أو شياطين، ولا يستطيع مخالفة نواميس الطبيعة في تجربته الفكرية.
اكتشف برنارد شو نفسه وأعطى العالم من اكتشافه، أما مونرو فقد صمم على الاحتفاظ بشعوره بالتفوق المنعزل
كتب هكتور مونرو رواية (باسينغتون الذي لا يطاق) عام 1912 وظلت خالدة خلودا غريبا رغم طعمها السلبي تماما!! الجواب ان رغم عدم معرفة البطل ما يريده الا أنه كان يعرف مالا يريده.
يسترسل ولسن في شرح مناظير الرؤية الثنائية والثلاثية الأبعاد ويخلص إلى أن الملل والكآبة والتفاهة أكثر ديمومة وواقعية.
كيف نقوم بإعادة بناء الاتصال مع الواقع؟ أولا التفاؤل
هنا يعتبر ولسن التشاؤم ذا بعدين والتفاؤل ثلاثة أبعاد، البعد الثالث هو الواقعية والحيوية
وبعد تحليل للكاتب مونرو والكاتب لورنس ورواياته التي تبدو قريبة من مفاهيم مونرو، يقارن بينهما ويخلص إلى أنهما تركا المشكلة دون حل.. رغم أن لورنس كان أكثر عمقا لكنه فشل في فهم الاختلاف بين الوعي الضيق والوعي متسع الزاوية. لهذا تظل أعماله غير مقنعة رغم عظمتها.
الخلاصة
1.     الهدف من الرواية هو تقديم وعي متسع الزاوية. الوعي اليومي ضيق ومحدود. الرواية أحد أكبر التعويضات الممتعة التي استطاع الإنسان أن يبتكرها.
2.     الرواية تعادل التجربة، ولمعظم الناس شهية لتجربة أكبر مما تستطيع الحياة أن تقدمه لنا. تستطيع الرواية ذلك إلى حد ما، وتستطيع تزويدنا بأشكال من التجربة المستحيلة واقعيا.
3.     الرواية شكل من أشكال التجربة الفكرية، وهدفها يشبه هدف التجارب الفكرية للفيلسوف وهو أن تعلمنا شيئا ما عن العالم الواقعي.
4.     هدف الرواية من الناحية المثالية تقديم وعي بثلاثة أبعاد وإدراك التعقيد المثير والعائل للعالم.
5.     الرواية الفاشلة هي تجربة فكرية أخفقت في الظهور بشكل صحيح، مثل عملية حسابية لم تأت بنتيجة صحيحة أو كتجربة في مختبر ارتكب صانعها خطأ ما.
6.     الهدف من كل هذه التجارب الفكرية هو سبر غور الحرية البشرية.

الفصل الخامس

وصفة للنجاح

كتابة رواية ناجحة فنيا ليست مهمة مستحيلة، فقد تم تحقيقه آلاف المرات، باستخدام أحد قوانين الحياة.
الحرية هي إفراغ للتوتر من الناحية الحياتية، لذلك فإن الرواية الناجحة هي التي تبني التوتر ثم تسمح له بالانطلاق كالرعد، هذا التوتر ينتج تشويقا لرؤية النتائج.
هذه طريقة كلاسيكية ناجحة طبقها جورج ميريديث أصعب الروائيين الفكتوريين بنجاح، وهنا يشرح ولسن هذا المفهوم من إحدى رواياته (الأنوي)، ولكنه يعتبر تكنيكه الأساس غير متقن رغم الأسلوب المنمق والمفارقة الممتعة عقليا، وبعض الأحداث غير منطقية او غير معقولة ولا تتوازى مع الحياة.
يشرح ولسن رواية (الإقناع) لجين اوستن التي يعتبرها قطعة مميزة من الاستغراق المستفيض في الحلم، وأن حبكتها ذات بساطة أساسية، وتعتمد كما رواية ميريديث على التشويق والتلاعب بعواطف القاريء حتى بأحداث غير منطقية وفنتازيا.
الحرية التي تهم جين أوستن أضيق نطاقا من التي تهم روائي معاصر آخر كجان بول سارتر، حرية أخلاقية، سياسية، وجودية، لكن ما يبعث على الدهشة هو أنه مؤلف يأخذنا في رحلة بحرية دون أية فكرة عن الوجهة ودون ضمان بأننا سنصل المكان المقصود. هذا الخلل سببه انه توغل في الغوص في القاعدة الأساسية للتوتر وإطلاق التوتر، ووصل إلى نتيجة خاطئة، وهي أن السبب أنه وسع دائرة الأحداث والشخصيات أكثر مما يريده القاري ويستوعبه، مما يسبب الملل.
الرواية التي تنتهي بمجرد موت بطلها هي رواية أسيء فهمها أصلا.
هناك روائيون يحلقون على ارتفاع عال وآخرون على ارتفاع منخفض.
كتابة رواية ناجحة تحلق على ارتفاع منخفض أسهل بكثير من كتابة رواية ناجحة تحلق عاليا.
الرواية الناجحة تماما تنتهي بحل المشكلة التي تحدثها.
أهم كتابين محلقين في القرن العشرين هما (جذور السماء) لرومان كاري و (الرجل الصعب) ل هوغو فون هوفمانزثال وهو مسرحية يعتبره ولسن أكثر العروض نجاحا لصورة الذات.
جوهر مشكلة رواية القرن العشرين هي أن الروائي لا يستطيع إلا إسقاط صورة ذاتية واضحة إذا ما عرف بوضوح نسبي ما يريده.

الفصل السادس

أنواع تحقيق الرغبة


لا يتعين على الكتاب أن يكون مقبولا من أجل أن يحظى بالقراءة، إذ أن الحلم المتقن البناء يبعث على الرضا بصورة تتساوى والرضا الذي تبعثه الموسيقى متقنة البناء.
ولهذا فإن حلم اليقظة هو الأساس الصحيح لكل الآداب، الطبيعة والواقعية والاشتراكية والتحليل النفساني والتجربة اللغوية كلها مقاربات ممتعة من أجل الرواية لكنها ليست مادتها أو جوهرها، والدافع الرئيس للرواية هو ضرورة إحداث واقع مرغوب فيه، أي إسقاط صورة للحياة التي نهوى أن نعيشها، ونمطا للإنسان الذي نريد أن نكونه.
الخيال الإيجابي يساعد على استمرارية حيوية الحياة، وهذا سر القوة الكامنة في قلب العقل، وهي أن الواقع ليس ما يحدث على اعتباره حقيقة في اللحظة الراهنة، بل هو ما ندركه في لحظات الجهد العظيمة، وتساعدنا القوة الغريبة للخيال على التشبث بهذه الرؤيا بعد زوال الجهد.
البشر الذين عانوا دوما من نقص الغذاء لم يكن لديهم الوقت لتطوير قيم أعلى. وهذا هو المستوى الأدنى للحاجات البشرية، وعند تحقيقه ينتقل الانسان لمستوى أعلى مثل الأمن والمأوى وغيرهما.
مر الأدب بمراحل الحاجات البشرية من صراع على الأرض حتى القرن الرابع عشر، ثم الصراع على ولأجل الأنثى الخالدة وهي المرأة الكاملة، استمر هذا حوالي خمسمائة عام حتى ظهور الرواية، حيث تم الانتقال إلى المستوى التالي، وهو احترام الذات وسبل تحقيق ذلك، ثم شهد القرن التاسع عشر روايات اجتماعية، وروايات تحقيق الذات والروايات الرومانسية.
لذا ستكون المرحلة القادمة في الروايات مرحلة تحقيق الذات، ويمكن العثور على جوهر أي كاتب موهوب في فنتازيا تحقيق الرغبة حتى لو اعتبر هذا الامر مجرد تسلية.
 لن يستطيع الكاتب التطور ما لم يدرك ما يريد وما يريد أن يكون.
يشرح ولسن صعود وهبوط الروائي ويلز من خلال حياته ورواياته التي يعتقد أنها حققت في النهاية صورة مصغرة للذات، ويعزو السبب أنه ديكنزي التوجه، يعني شخصياته كوميدية عبثية.
ويخلص في النهاية إلى أن تحقيق الرغبة هو الأساس الصحيح لكل الإبداعات.

الفصل السابع

تجارب

اختلفت صورة الذات عند الكتاب في القرن العشرين ما بين متواضعة وعادية ومتضخمة، وكان بعضهم يكتب عن نفسه ورغباته وشهواته بجرأة.
الأسلوب كان جملا قصيرة تقريرية عند بعضهم، وربما ضبابية، ثم حصل انقلاب مع بداية القرن العشرين فصارت الجمل محكمة وواضحة أكثر رغم عمقها ورمزيتها وشعريتها أحيانا أخرى.
((مما تجدر الإشارة إليه ورود حوارات إلحادية ومتطاولة على المسيح في رواية جويس المهووس بالرغبة في الحصول على الإعجاب والشهرة، أقول أن نفس الأمر ابتغاه من رسم تلك الصور المسيئة عن النبي ص، فقد قد انتهوا من المسيح وتحولوا إلى شيء مقدس آخر، هكذا يفعلون بلا وازع أخلاقي بغية الشهرة فقط، ونحن نعطيهم الوسائل والأسباب، تاليا الحوار منقولا كما هو)):
"فسأل كرانلي: هل خطرت لك فكرة أن يسوع لم يكن حقا ما يتظاهر به؟
رد ستيفن: أول شخص خطرت له هذه الفكرة هو يسوع نفسه.
- أعني هل خطرت لك فكرة أنه كان منافقا واعيا، ضريحا خاويا كما كان يقول يهود عصره؟
ويفسر ولسن هذه التصرفات بقوله: عندما تصبح الرغبة في الحصول على الإعجاب والشهرة واحترام الذات كهذه، فإن المؤلف يأخذ بالسير نحو الجنون.
في العام 1922 ظهرت رواية يولسيس ورغم صعوبة الحكم على ربع مليون كلمة فقد تم الاعتراف بها فورا كواحدة من أهم الروايات التي ظهرت منذ رواية (باميلا)، أراد الكاتب جويس أن يأتي بما لم يأت به الأولون، وهو إحلال عدسة مكبرة محل العدسات الاعتيادية، وإظهار الحقيقة بتفاصيل دقيقة لم يسبق أن قام بها أحد من قبل. لكن الخلل يكمن في أن الرواية حين كانت تهدف إلى إحداث وعي متسع الرؤية قدم جويس عدسة تحتوي على رؤية أشد ضيقا من المعتاد. لم تصل الرواية إلى نقطة محددة رغم تضمنها الكثير من الأحداث، وكان عنصر التشويق فيها ضعيفا. لكن جويس مهد للطريقة الميثولوجية، كانت الرواية واقعية عكست صورة عصره، وهي في النهاية هي دراسة عن الفنان في بيئة يحيط بها الأعداء، وتبرر تصرفاته. الرواية صراحة وعموما تمثل قطعة من قطع تعظيم الذات، وعملية إخلاء النص الواقعي من الحبكة عملية ذكية يراد منها صرف الأنظار عن القضية الجوهرية.
في النهاية يصل ولسن إلى نتيجة مفادها أن رواية يولسيس كانت من أكثر التأثيرات ضررا بأدب القرن العشرين، وهي التي دفعت النقاد إلى إعلان نهاية الرواية، وأنها لا يمكن أن تذهب أبعد من هذا، وقد تسبب جويس عمدا بهذا، كي يخفي حقيقة أن الدافع الأسمى وراء يولسيس هو تأكيد الأنا وتعظيم الذات.
شو و ويلز و شسترتن هم الكتاب المشهورين بين 1900-1910 وبدرجة أقل أوسكار وايلد، فقد عالجوا مواضيع فكرية، أما جويس فيقول أنه لا علاقة للأفكار بالأدب. الكاتب الذي يعلن عدم أهمية الأفكار يلزم نفسه بالتشاؤم، ولم يقم جويس إلا بتعميق التشاؤم الذي خيم على الرواية منذ فلوبير.
يولسيس كانت عملا لامعا من الناحية الفنية، هي زخرفة لا أكثر. غير أن الأفكار التي فيها كانت تناقش رياضيا كعملية حسابية لتمرين العقل فقط وليس لها أية قيمة بنظره.
الرواية التجريبية هي رواية يحاول فيها الكاتب استخدام تقنيات جديدة لنقل رؤيته الذاتية عن الواقع، شرط ألا تكون هناك وسيلة أخرى لنقلها. وهي تجربة فكرية غير ناجحة.
يسرد ولسن مجموعة من الروايات التي يعتبرها تجريبية ويبدأ بشرح بعضها وتقسيمها ما بين تقليدية وراديكالية، وفي القائمة مجموعة من كبار الروائيين مثل همنغواي (وداعا للسلاح) و سارتر (دروب الحرية).
يمدح الوصف التصويري الدقيق لقصف الطائرات في رواية ( لمن تقرع الأجراس) قائلا: هذه كتابة ذات قوة هائلة.. ولم يسبق لأي روائي قبل همنغواي أن قام بنقل صورة العنف والموت بمثل هذا الحس الصادق، وهذه هي ( التجربة البديلة) التي لم يعرفها البعض قبل هذا. رواية (وداعا للسلاح) أعظم نجاح لهمنغواي وهي إحدى أروع روايات القرن العشرين، لأنها تستخدم نفس التقنية الفوتوغرافية لنقل وقائع الحرب في 1914.
الإنسان العادي يعرف ما هو لكنه لا يعرف ما يريد أن يكون، بطل همنغواي يفتقر إلى الإحساس بالهدف النهائي.

الفصل الثامن

أفكار

على الإنسان أن يتعلم العطاء كما يتعلم الأخذ
العالم مليء بأناس لا يسيرون على هوانا ولذلك نريد السلطة لتغييرهم وإعادة تنظيم العالم كما نريد.
الذين حول الرجل الصائب - الذي لا يعترف بخطئه أبدا- يساعدونه على أداء دوره وإشباع غروره، كونهم يعتمدون عليه اعتمادا كليا، كزوجته وأولاده، لكنهم متى حجموه يمرض أو يموت أو يصاب بمرض عقلي - كسائر الطغاة-.
الرجل الصائب نظرية ل فان فوغت، وهي نظرية رائعة للروائي. مادة الكاتب تتكون من بشر آخرين- بالإضافة إلى نفسه وهو يحاول فهم الدوافع التي تحركهم- ولا سيما تلك التي تقع تحت ظروف قاهرة. ولا يكفي ملاحظة خصوصيات الإنسان، بل يجب تصنيف هذه الخصوصيات و فهم قوانينها العامة.
كل ممنوع مرغوب.
هناك كاتب جيد يصور ببراعة أما الكاتب الجاد فهو الذي يهتم بالمضامين التي تحويها الصور.
يجب التعرف أكثر على الطبيعة البشرية
همنغواي طرح الأسئلة الخاطئة وفشل في متابعة أجوبته. لكنه أدرك أن الشعور القومي بالهدف هو الذي يحدث الإحساس بالهدوء والصفاء الداخلي.
حالة الوعي الاعتيادية ناقصة نوعا ما -يعني جزئية-، وبإمكان أزمة مفاجئة أن تكمل هذا النقص، ولكن هل هناك طريقة غير الأزمات لإكمال الوعي الناقص؟ نعم يمكن إكماله بالتفكير التأملي في مضامين الأشياء وليس ظواهرها.
الواقع يثير خيبة الأمل دائما، وتكمن السعادة القصوى في الآمال والأوهام والتوقعات.
الفكرة في أي كتاب هي محاولة المؤلف تلخيص فكرته للوجود، أو على الأقل نظرته للحياة اليومية، هل هو فائز طبيعي أم خاسر طبيعي؟ هل يؤمن أن في وسع العقل البشري وقوة الإرادة أن يطورا الأمور نحو الأحسن، أم يشعر أنه ليس هناك تأثير لكل ما نقوم به وأننا مخلوقات ظرف؟ هل يشعر بالعطف إزاء معاناة البشر أم أنها تمس ينبوعا غامضا من السادية؟ هل يقوم بتسجيل سطح الوجود الإنساني كما نراه جميعا أم أنه يحاول التغلغل في أعماقه؟ هل هو واصف له أم مفسر؟
كل كاتب يكتب عن عالم موجود داخل رأسه رغم وجود عالم حياتي جماعي.
تتراوح الكتابة بين الفردية (الشخصية) والجماعية (المجتمع)
الرؤية اليومية كاذبة لأنها ناقصة، قد تكتمل عند لحظة مواجهة الموت ( اكتمال الوعي أو العقل الجزئي)
يحلل ولسن بعض الروايات من منظور الفكرة أعلاه، حيث قد ينتحر الناس من الفراغ أو يطالبون بالحياة عندما يفيقون بعد عقاب على جرم اقترفوه بسبب الملل.
((ألاحظ هنا أمورا لا توجد عندنا بشكل عام، فالمسلم يعرف- بشكل عام- من الخالق ولماذا خلق وما وظيفة الإنسان في الأرض، فلا يشعر أن هناك داع لمثل هذه الفلسفات، لذلك حري بالرواية العربية أن تنتقل إلى البعد الإنساني دون المرور بتلك المراحل السقيمة. لكن لا بأس من معرفة دقائق النفس البشرية وطريقة تفاعلها مع المحيط والأشياء.))
النظر إلى الأمور عن بعد يجعلنا نراها جميلة ضمن الإطار، أما إن غصنا في التفاصيل الدقيقة أو اقتربنا أكثر من اللازم فسنجد أنها بلا معنى.
((كأني بالأدباء الغربيين يتلقفون الأفكار الفلسفية والتحليلات النفسية والأساطير ثم يسقطونها على واقعهم فبعضهم تبنى أفكار فرويد وبعضهم أرسطو وبعضهم واقعي وبعضهم خيال علمي.. كانوا يتأثرون بما ينشر ويؤثرون بمن حولهم، كانت حملة ثقافية كبرى، لكنها صرفت الكثير من الجهد في لاشيء))
يحلل ولسن أيضا بعض الروايات ذات مفهومي الوعي الفردي والوعي الجماعي وتأثيراتهما على القاريء، كما يحلل الأساليب التي تخدر القاريء والتي تجعله منتبها.
الروايات النبوئية هي الروايات التي تجمع بين الرؤيتين القريبة والبعيدة.
دخلت الرواية لتطوير سرد المغامرات حيث حلق الخيال الإنساني تحليقا عاليا، ثم وقعت ضحية لقصور الوعي ذاته الذي جاءت لمعالجته.
إن مهمة الروائي روحية، وهي أن يحرر نفسه من المحدودية ويحقق رؤية متسعة الزاوية ونقل ذلك إلى القاريء.

الفصل التاسع

التكنيك والبناء


على الكاتب أن يخلق التباين ((المفارقة)) في كتاباته، وباعتبار أن الأديب أكثر تأثرا وصراخا من الواقع المؤلم، فعليه توضيح ذلك لخلق الصدمة عند الجمهور كي يتحرك للتغيير نحو الأفضل، ولكل روائي شعوره الخاص بما هو مهم وتام المعنى.
ولا يعتبر ولسن - في استدراك- أن المفارقة ضرورية في العمل الأدبي، فمجرد عيشنا في العالم الخارجي الموجود يعطي مفارقة عميقة.
((أشعر بتناقض كبير في ولسن))؛ فهو يعتبر رواية يولسيس متشائمة وتدمر العالم كما قلنا سابقا، ولكن عندما يصفها فوستر بأنها محاولة ثابتة لتغطية العالم بالوحل يقول هذا تعليق ظالم.
عندما يشعر الكاتب أن العالم كبيته، ويقبل الحياة كيفما كانت، ولا يرى سببا يدعو للضيق لن ينتج أدبا ممتعا.
سيبدع الفنان فيما يحبه. (( وكل إنسان أيضا في أية مهنة))
لا بد من وجود الروح في الكتابة ((ربما يقصد الحماس وصدق العاطفة))
حالما يصل الكاتب إلى (رموز تعمقه) ((رموز العمق)) فإن مهمته التالية هي أن يقدم بوضوح كبير العالم الحياتي الجماعي بالمغايرة مع عالم البداهة.
الهدف الاجتماعي لا يكفي وحده لتزويد الكاتب بالعمق الذي يحتاجه للتطور,
المعادل الموضوعي: هو محاولة إيجاد موقف أو سلسلة من الأحداث من أجل إسقاط عاطفة لا يوجد لها معادل في الشخصيات
وتصل مشكلة إحداث معادل موضوعي إلى قضية مهمة هي البناء، فإذا لم يكن أكثر المشاهد أهمية هو ذروة العمل، فإن فيه خللا
رواية (السفراء) لجيمز وصلت إلى الكمال تقريبا من حيث البنيان، لكن لا يقال نفس الشيء عن المنطقية والأسلوب المنهك، وقد فشل جيمز في فهم الآخرين.
إذن البناء ليس بأهمية الفكرة والمنطقية. يعني لا تكفي اللغة والتصوير الجيد إن لم تدعما بفكرة ممتازة ومنطقية معقولة.

الفصل العاشر

الحدود


الصورة أصدق من اللوحة الفنية لأنها حقيقية، بينما قد يكون موضوع اللوحة الفنية أعظم بكثير من الصورة. من هنا تنبع قوة الكتابة التصويرية، وتأثيرها أكبر من تأثير قصص كان ياما كان.
قد يعمد الكاتب إلى إدخال ميكروفون إلى رأس الشخص ويبدأ بتسجيل أفكاره.
قد يصبح التكنيك التصويري عديم الجدوى في بعض الحالات. اللغة أداة توصيل كالبوصلة أو المسطرة، ويمكن استخدامها في وصف الواقع واستغواره أيضا، لكنها ليست بحد ذاتها شكلا من أشكال الواقع. وكلما نظرنا بعمق أشد إلى الواقع، كلما لاحظنا مزيدا من ظلال المعنى الجميلة، لهذا يجب عدم اللعب والتلاعب باللغة دون الحاجة للتعبير عن ظلال جديدة من المعنى، فتكون النتيجة مثل هرة تلعب بكرة من الصوف.
((لم يراعي المترجم خواص اللغة العربية حين ترجم بعض المصطلحات التي استخدمها ولسن بنفس الكلمات دون شرح وتبسيط، وكذلك لم يراعي خاصية أن ولسن يتكلم لبشر يشاطرونه التاريخ والجغرافيا فلذلك من السهل إدراج بعض الكلمات والاختصارات التي قد يفهمونها بطريقة ما بينما لن يفهما قاريء من مكان آخر, فهو يستخدم كلمة عصابي وربما يقصد عصبي بينما العصاب مرض تدخل فيه كثير من الأمور مثل الخوف والهواجس، ويستخدم كلمة سنوبي التي لم أعرف معناها حتى الآن.
من ناحية أخرى رأيت ولسن في هذا الفصل مرتبكا ولا يستطيع تسمية ما يريد قوله، فهو يأتي بالكثير من الأمثلة دخولا في اللغة وانغلاق طرقها ويعرج على شرح مبسط عن المشاهد التي تمر في الرواية. ويحاول نقد أو شرح بعضها. يعني يمضي معظم الفصل بمقتطفات من هنا وهناك وببعض الشروح دون أن يستطيع وضع عنوان أو اسم يلخص ما يقوله.))
ويستمر بالقفز من رواية إلى أخرى وشرح بعض المقاطع دون عنصر مشترك بينها، ثم يقول اخترع الكاتب فلان سببا لكي يقنع الناس بأن الشخص انتحر لهذا السبب، وهذا السبب فعليا لا يدعو إلى الانتحار فهو سبب مفتعل، فعله الكاتب لكي يغطي على الطريق المغلق الذي وصل إليه.
وفي النهاية يقول: كانت رواية فوكنر (الصخب والعنف) صدمة للنقاد، رغم أنه سار باللغة إلى أبعد من المألوف مختلفا عن رواياته السابقة، إذ بدأ الرواية بمونولوج داخلي طويل يتحدث فيه معتوه، مما يصيب القاريء بالسأم، ويبقيه في حالة من التوتر التراجيدي، وقام بالقفز أماما وخلفا بطريقة عشوائية، مما حول الرواية إلى أحجية من أحجيات الصورة المتقطعة التي تحتاج إلى القراءة مرات عديدة، والسبب برأي ولسن أنه لم يستطع العثور على المعادل الموضوعي الصحيح لنقل عواطفه ((مشاعره)). ثم كتب رواية (الحرم) التي عثر فيها على المعادل الموضوعي، ورغم هذا تعتبر نفيا للقيم مما يمثل نوعا من الطريق المسدود.
على الكاتب أن يوازن بين قيم الخير والشر وألا يكون متفائلا جدا ولا متشائما جدا.
قانون نيوتن هو قانون مناسب للرواية، لكل فعل رد فعل... ، وهكذا هناك قوتان في كل الأعمال الأدبية، تتحدا ثم تحدثان قوة ثالثة بزاوية قائمة.. وتتكون وحدة أية رواية من توتر القوى المتعاكسة.
وتتحقق وحدة الرواية أيضا عندما تتمتع باندفاعة واحدة قوية، ولكن لفترة قصيرة، وتكون ناجحة وفق حدود معينة، بيد أن القوة الوحيدة تتفكك، إذ تصل حدا لا سبيل لتجاوزه، فرواية دوصاد (مائة وعشرون يوما في سدوم) تعتبر من أقسى الروايات التي كتبت على الاطلاق، ورواية أرتسيباشيف (نقطة الاختراق) من أشد الروايات كآبة، و (سهرة في فنيغان) من أكثر الروايات تعقيدا من ناحية اللغة، و(الغداء العاري) من أشد الروايات كابوسية، و(جامع القمامة) من أشد الروايات عنفا، وتمثل كل رواية طريقا مسدودا يشبه رد فعل الكيماوي الذي يحرق نفسه ولا يتضمن أية إمكانية أخرى بالتغيير أو التطور.
يعرج الآن على صموئيل بيكيت ورواياته، يبدأ بشرح نزر من حياته المليئة بالسأم والملل، ثم يدخل إلى روايته الأولى (مرفي) المليئة بالسأم والملل وخلو الحياة من أي معنى. وهو مثل كامو يشعر أن الكون لا يعيرنا اهتماما أبدا، وأن مشاعرنا كافة- لهذا السبب- عبثية وغير مترابطة نوعا ما، كمغني أوبرا يفتح فمه ويغلقه دون أن يصدر عنه أي صوت، ثم يطور التكنيك في رواية (وات 1944) التي بدت مزيجا من أفكار كافكا وجيمس وجويس وديكنز، فيها أيضا أوصاف هزلية معقدة لنقاط ثانوية ليست مضحكة، ويتلاشى التوتر بين المادة والأسلوب. ثم في الروايات التالية (مولي) و (مالون يموت) و(اللامسمى) استخدم نفس الأسلوب تكرارا ومرارا ليدلل على الملل والسأم، وكذا نفس الأمر بالنسبة لمسرحيته ( في انتظار غودو) التي حققت له الشهرة. وهو يتخيل أن من شأن جعل الموضوع مملا عمدا أن يصبح أشد تأثيرا، ولكن هذا إخفاق في قواعد الفن: لا بد من وجود قوتين متنافرتين لإحداث قوة ثالثة عند زاوية قائمة، لأن القوة الوحيدة تتلاشى دائما.
بيكيت هو المثال الأخير للمنطق الفني الخاطيء الذي يصل إلى خاتمة مزيفة.

الفصل الحادي عشر

الفنتازيا والاتجاهات الجديدة


ولدت الرواية في إسبانيا عام 1499 ((سقطت الأندلس عام 1492)) برواية سليستا للكاتب فرناندو دي روجاس، ثم بدأت تنمو نموا بطيئا لقرنين من الزمن، ومن ثم أصبحت فجأة كاملة النمو. ثم وبعد قرنين من الزمان، وبعد موت جيمس جويس عام 1941 بدأ يشعر عدد كبير من النقاد أنها وصلت نهاية ذروتها، وفي الواقع لم تظهر أية دلائل تشير إلى تقدم مهم منذ عهد التجريبيين العظام بروست وموسيل وجويس، وكان معظم أشهر الروائيين بعد جويس تقليديين. وانتشرت الروايات الرخيصة- الخالية من أية قيمة أدبية وليس فيها سوى العنف والرعب- في أواسط القرن التاسع عشر، بعض الكتاب الكبار بدأوا حياتهم بها وكان يطلق عليها روايات بنسية (تباع ب بنس واحد) وهم كتاب التعيُّش، ولم يكن كتابها معروفين.
هناك هوة ساحقة بين الروائيين الجادين والروائيين الشعبيين.
شهدت حقبة الستينات وبداية السبعينات انتعاش الاهتمام بالفنتازيا، وأصبحت قصص الخيال العلمي سعارا بعد أن كانت مقتصرة على مجلات الإثارة، ويجري هذا كله بصورة موازية لانتعاش الاهتمام بالسحر والصوفية والقوى الخفية، وما زال مستمرا ((حتى تاريخ نشر الكتاب وهو 1984))، وهذه الظاهرة تمثل حالة هروبية من حقائق هذا العالم العنيفة والمثيرة للذعر، وهذه الهروبية تؤسس لمفاهيم خاطئة، أحس الرومانسيون الأوائل مثل غوته و شيلر و وردزورث و روسو و جان بول أن الروح الإنسانية على وشك أن تحقق طفرة، ولكن مع اقتراب القرن من نهايته كان الأمل قد تلاشى، إذ استحوذ عليه الإشفاق على الذات والتشاؤم المفرط في الذاتية، بالإضافة إلى ذلك بات العلم يحقق نجاحات هائلة، وتمسك معظم العلماء بالإيمان بالقول أنه سيجري يوما ما تفسير الكون حسب القوانين الفيزيائية ((النظرة المادية)) فيجد الخيال نفسه في حالة دفاع. وهكذا سقطت الرومانسية الأولى في يأس الجيل المأساوي في تسعينيات القرن التاسع عشر. وتبين أن حقائق الحياة اليومية تناقض تماما الفكرة القائلة إن الإنسان كان يرتقي إلى شيء أكثر ألوهية. ومع حلول العقد الثاني من القرن العشرين، لم تعد الحقائق بالغة التناقض، بسبب التقدم العلمي حيث صار أصحاب الأقطار المتمدنة يعيشون بأمان أكثر من أي وقت مضى، وتعلموا في الجامعات وصاروا يملكون خيالا أكبر. وصار لزاما أن تنتج روايات تواكب العصر، فظهرت الروايات السياسية والاقتصادية والإدارية...
وبعد وصول المجتمع إلى قمة هرم احترام الذات، فلا بأس من العودة إلى الرومانسية والصوفية، لأنها قد تنتج عنها خطوة إلى الأمام.. فظهرت رواية سيد الخواتم 1954-1956 وهي فنتازيا تتألف من ثلاثة كتب لاقت رواجا باهرا. وهي تتفق مع الضرورة الأساسية للرواية الجادة وهو التعبير الواضح عن قيم الكاتب، ولكن ماذا عن العنصر الجوهري الآخر؛ القيم التي يكرهها الكاتب؟ موجودة أيضا في الرواية، وهكذا تجنب تولكين العثرة الرئيسية أمام الفنتازيا وهي الإخفاق في تقديم عالم بديل، ولهذا كانت من أنجح الروايات في القرن العشرين. وهكذا وجد تولكين الطريقة لإخراج الرواية من الطريق المسدود الذي اخترعه جويس..
وفي نفس الفترة تقريبا 1946-59 ظهرت ثلاثية ميرفن بيك (تيتوس جرون و جورمنجهاست و تيتوس ألون) وكانت ترسخ واقعيتها الخاصة وإحساسها الخاص بالقيم بتمكن مفقود عند روائيي القرن العشرين.
تعتبر رواية ليندساي (رحلة إلى آركتوس 1920) أعظم عمل خيالي في القرن العشرين - وربما في الأدب كله-. يرفض فيها ليندساي هذا العالم المزيف
هذه الرواية فيها خيال جامح رغم أسلوبها الضعيف، يشرح ولسن الثيمات التي فيها، ويخلص إلى أنه برع في الوصول إلى ما يريد، وكي لا تنغلق الكتابة عاد إلى الأرض برواية المرأة المسكونة، وهي رواية خرقاء أكثر من آركتوس كما يقول ولسن، تراجع الكاتب فيها عدة خطوات عن رفضه البالغ لينتجها.
الحياة الاجتماعية تحرفنا وتمنعنا من تحقيق ذاتنا، وعالم الأحلام هو عالم مشترك لجميع البشر.
ونجد أن ثيمة ليندساي في رواية أبو الهول هي أن الحياة التي نعيشها في العالم اليومي، ما هي إلا مرآة مشوشة، وهذا السبب في فوضى الحياة وعدم بعثها على الرضا، وإذا أردنا أن نعرف أنفسنا على حقيقتها فيجب علينا البحث عن هذه الحقيقة.
(( وهنا أجد نفسي مضطرا للتدخل مرة أخرى لأقول: النهضة العلمية والصناعية في أوروبا لم تكن معها نهضة روحانية موازية، حيث أن الكتّاب إما غير متدينين أو غير مثقفين ثقافة دينية سليمة- وهذا لا يكون إلا بالإسلام لشمولية نظرته عن الكون والإنسان- أو متدينين بطريقة خاطئة، وغير المتدينين منهم نهلوا من الفلسفات اللادينية- وبعضها إلحادي- فوقعوا في شرك الضبابية، فصاروا يبحثون عن ذواتهم وعن كنه الكون بلا هوادة، ولما لم يستفيدوا من الرومانسية ولا من الواقعية المادية عادوا إلى عالم الخيال الذي أعتبره هروبا بسبب تخمة المعلومات وتطور العلم، يعني ما بقي عندهم موضوعات لكتابتها، وإذا أحسن العرب بإمكانهم أن يتسيدوا الرواية العالمية، لأن عندنا أشياء كثيرة ومواضيع لا تعد ولا تحصى لا يمكن لهم أن يمتلكوها، وعلينا ألا نخشى من إدخال العنصر الديني في الأدب))
فشل ليندساي كما فشل فوكنر لنفس السبب: لأنه تمنى أن تعكس أعماله عالم اليوم بينما اهتمامه منصب على مكان آخر.
وفي النهاية يخلص ولسن إلى أن الفنتازيا ليست مرادفا آخر للخيال الحر، بل ملكة على درجة عالية من التدريب، تستعمل الخيال لاستغوار الأفكار، وتتساوى قوانينها في دقتها مع قوانين الرياضيات، والرواية بشكل عام عملية رياضية دقيقة.

الفصل الثاني عشر

خلاصات



الرواية محاولة لإحداث مرآة من المرايا التي يستطيع الروائي من خلالها رؤية وجهه. وهي أساسا محاولة لإحداث الذات، وما (وصف الواقع) و (قول الحقيقة) إلا أهدافا ثانوية وأوراق اعتماد الروائي- سلطته في الطلب من القاريء أن يعيره اهتمامه-. أما هدفه الحقيقي فهو أن يفهم نفسه ويدرك غرضه، وبهذا يكون قد مكن القاريء من فهم نفسه وإدراك غرضه الخاص به. ولا يعني هذا القول أن هدف الروائي ليس هو (الحقيقة) في نهاية المطاف، بل إن هذه الحقيقة لا يمكن تحقيقها في النهاية إلا بواسطة تعريف أكثر وضوحا للصورة الذاتية.
وهذا يعني أن هدف الفن ليس رفع مرآة أمام الطبيعة، بل أمام وجهك؛ ليس وجهك اليومي، بل (الوجه الكائن وراء وجهك)، أي وجهك النهائي.
هدف الروائي يتمثل في أن يكون عدسة متسعة الزاوية كمرآة السيارة الجانبية. وليست وظيفة هذه العدسة إظهار العالم بصدق أكبر، بل جعل القاريء واعيا بالتجربة أكثر. ومنحه إحساسا بالحرية والانطلاق.
والحرية موجودة في نهاية المتاهة الموجودة داخلنا.
أما بالنسبة لقواعد الأسلوب والبناء وبناء الشخصيات فهي خبرة يبنيها الكاتب من القراءة والتجريب. أما القاعدة الوحيدة فهي تجنب الأزقة المسدودة، وهي تنتج من تأويل الحدث الفني بحجم اكبر بكثير من تأويل الفكرة. أن يفهم الكاتب الأهداف والطرق الأساسية ((خيط السرد)) للرواية.
والرواية في النهاية ليست عالما مستقلا منعزلا، بل هي تجربة فكرية ونوع من الركض الصامت من أجل التجربة الفعلية.
الرواية هي أداة علمية لحل مشكلة ما. وهدفها تربية الكاتب والقاريء معا.
يجب علينا ضبط عيار المنظار لرؤية المشاهد والمشاعر بشكل أفضل.
معظم قيمنا (الأشياء التي نحبها) مخفية معظم الوقت وكأنها تحت الضباب، ولدى الجميع عشرات الأسباب ليشعر بالسعادة، إلا أن هذه القيم تظل تحت الوعي باستثناء لحظات نادرة من البهجة المفاجئة.
يستطيع العقل الباطن التحكم في الكثير من تصرفاتنا وإنجازها على نحو أفضل من الوعي، بعد التعلم تقود السيارة بالعقل الباطن، والطباعة والتنفس وغيرها. حتى أننا يمكن أن ننسى أشياء فعلناها قبل دقائق، لأن العقل الباطن (يسميه ولسن روبوت) فعلها. وعندما نهمل أنفسنا ونترك للروبوت القيادة فإنه يدمرنا لأنه يجنح للسكون ويصيبنا بالكآبة. ((نظرية مدهشة من صلب الإسلام، حيث يأمر الإسلام بالعمل حتى آخر نفس، ولو قامت القيامة وفي يدك شتلة فازرعها، مما يخفف عنها أمراض الكآبة والجنون))، يعني يجب أن نعيش ونتفاعل مع الحياة بلا توقف، ومن هنا نلاحظ أن أمراض الكآبة والملل والسأم والتشاؤم لا تصيب إلا العاطلين.
ومن هنا ستكون التجربة بالغة الذروة مستحيلة عمليا بالنسبة لشخص يعيش في حالة من البؤس السلبي، لأن همته منخفضة.
تعتمد القوة التي ندرك بها الكون أو أي شيء على مقدار اهتمامنا به.
لكل مشكلة عدة حلول، وعلى الكاتب تقديم الحل الأفضل وليس الأكثر إدهاشا... فإن كانت الحياة أفضل فليقدمها، وإن كان الموت أفضل فليقدمه، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة كاملة بتفاصيلها. النهاية الآلية التي تكمل القصة وتترك جوهر الرواية دون تطوير يعتبران تنصلا من المسؤولية وهذا فشل للروائي.
يسعى الإنسان إلى عمق الشعور بالنشوة من خلال كل أفعاله الإبداعية، بما فيها القتل والتدمير.
الواقعية تفشل إن أهملت الرومانسية والمثالية
باستثناءات قليلة ونادرة عاد الروائيون بعد جويس إلى الطرق القديمة وانتظار ورؤية ما سيحدث، ولهذا كان معظم أشهر أسماء حقبة ما بعد الحرب من التقليديين الذين مارسوا الكتابة وكأن جويس وكافكا وغرترود شتاين وهمنغواي لم يوجدوا إطلاقا، ولا يبدو أن أحدا ما قد عثر على الطريق الجديدة، إن كانت موجودة.
الكتاب يتعلمون أكثر من روايتهم الأولى.
يشرح ولسن تجربته في كتابة الرواية، حيث كتب روايته الأولى وهو في الثامنة عشرة، وظل فترة طويلة ينقحها ويضيف ويحذف حتى بلغ الخامسة والعشرين، ثم وجد أنها ثقيلة فكريا وممتلئة بالرموز والإشارات، فأعاد كتابتها بطريقة أبسط، ونشرت فورا وخلال يومين نفدت الطبعة الأولى من اللامنتمي. واستمر خمس سنوات في كتابة (طقوس في الظلام).
الروايا كالدراما هدفها المتعة، شرط أن تكون المتعة أكثر من الهواجس الكئيبة، والكاتب إن فقد صفة المسامر الجيد فقد صفة الفنان الجيد. جدية الفنان لا تقاس باستيعابه للمشاعر القوية فحسب، بل وبعمق اهتمامه بالعالم الموضوعي أيضا، ومحاولة التعبير عن ذلك في عمله.
يعتبر ولسن روايته الثالثة أفضل أعماله لكنها لم تلق الاهتمام. ويعتقد أن العقلانية الممزقة للثيمة هي السبب، لكنه اكتشف أن الرواية يجب أن تملك هدفا آخر بالإضافة إلى استغواره لذاته.
ثم يشرح في شرح رواياته وثيماتها وأساليب بعض الكتاب التي أودت بالرواية ويخلص إلى القول: المشكلة تتمثل في أن الرواية سقطت أسيرة جديتها ونسيت المتعة والترفيه.
كل ما هو ضروري هو إدراك الروائي أن هدفه الحقيقي ليس مجرد عكس"يانوراما هائلة عن اللاجدوى والفوضى اللتين تتمثلان في التاريخ المعاصر"، بل تحرير الخيال الإنساني وإعطاء القراء لمحة لما يمكن أن يحدث. ووظيفته الكشف عن طريق ارتقاء البشر في المستقبل.

تم الكتاب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق