يجب أن أكتب.. الخراب يعم البلدان، والشقاء طليق غير مدان، الموت يزغرد، والسلام منبوذ في كل مكان
في رأسي ألف حكاية وحكاية تتناطح للفوز برضاي..وعشرات الأفكار الجميلة تسبح في سماء مخيلتي، تجدف برعب كي لا تغرق في بحر النسيان.. نادرا ما تعود الفكرة إن هربت، الأخطر أن تقع في يد القراصنة أو المارقين والمفسدين، عندها تتحول إلى ماجنة..
عانيت كثيرا حتى استطعت اقتطاع بضع ساعات من وقتي من أجل الكتابة، ولكنها لا تعادل معاناة طفل مقعد في جسده شظية فاجرة أرسلتها يد محبة آسرة، أو أم مكلومة فقدت الأخضر واليابس، فامتهنت النواح والبكاء، أو أب لا يستطيع العثور على خريطة الخبز، لكنه تعثر بسلاح، فحمله ومضى يعدم أحلامه مع الأعداء..
جرجرت نفسي إلى الطاولة وأنا أهمس لها: نعم.. لدي فكرة الآن، وعلي أن أكتبها بسرعة
فتحت الحاسوب: بسم الله الرحمن الرحيم ، عدلت جلستي على الكرسي.. اتخذت وضعية المحارب، يا للحروب التي لا تنقضي إلا لتظهر بلباس جديد! ظهري مستقيم مشدود تحسبا لهروب أية كلمة.. أطقطق أصابعي كي أعيد لها لياقتها من أجل أن تنقل أفكاري بسرعة؛ فهي في سباق على الزمن مع الجريمة، ولا أريد أن تكون الأصابع خاسرة..
بجانبي كوب ماء ممتليء، تحسبا لجفاف حلقي إذا ما خطر ببالي عطش المشافي للأدوية، ولكن ألا يلزم كوب شاي أو فنجان قهوة ساخن، كحرارة النفاق فيما بيننا؟
يااااااا زوجتي..! أحضري لي كوبا ساخنا من أي شيء، فبعضهم لا يجد أي شيء..
كنت سابدأ لولا صوت كهدير الرعد اقتحم السكون من حولي، موجها صفعة صكت أذني وشردت صوابي في أصقاع الغضب
- بطاااطاااااااا.. طمااااااااااااطم... خياااااااااااار
تزلزت كالمباني التي تتساقط عليها البراميل، غير أني استجمعت نفسي وهجمت غاضبا على الشباك الذي نسيته مفتوحا، أغلقته وأنا أتمتم : مجنون هذا أم ماذا؟ لماذا لا يقف في مكان ظليل ينتظر زبائنه؟ لا بد أنه تعود التسكع بين العرصات والأزقة، ربما يكون الخداع والحقد قد ألجآه إلى صفاء الطبيعة.
أخذت رشفة ماء وأنا أهديء نفسي وأستجمع أفكاري .
نعم .. سأبدأ، لكن من أين؟ ودخلت في جدال مع نفسي على العنوان والفكرة؛ أيهما أهم؟ هل أضع العنوان أولا ثم أكتب؟ أم العكس؟ يجب أن أبتعد عما يجلب الهم والغم، وأكتب غزلا حامي الوطيس، يجعلهم يحلقون في سماوات الوهم..
وبعد صراع مرير طحن الكثير من طاقتي وذراها في عواصف القرار، انتصرت الفكرة
وضعت أصابعي بحماس على لوحة المفاتيح وإذا..
- ها قد أحضرت لك كوب الشاي..
وأقعدته بجانب اللوحة بعصبية ونظرات متجهمة حتى كاد يندلق.. وأضافت: لا تطلب غيره فلست متفرغة.. عندي ضيوف وعمل و.. ومضت، ملقية بانتباهي من الشباك، فتجمدت مشدوها، استرجعته بعد جهد جهيد، ولملمت أطراف الفكرة .. جمعتها بكف واحدة وأودعتها رأسي..
فلأستمر إذن.. وهل بدأت حتى أستمر؟
(كان شابا مجتهدا، رمت به الظروف إلى مجاهيل الغربة من أجل العلم..
- بابا بابا..!! أمي لا تسمح لي بالذهاب في رحلة المدرسة إلى مدينة الألعاب
- ما رأيك بالألعاب الإرهابية التي نقتل الأطفال في سوريا، وماذا لو لعبت بحجر في وجه دبابة أو دورية صهيونية؟ صرخ باباااااا، قلت حسنا أنا سأكلمها، أخرج وأغلق الباب خلفك
مرة أخرى ألملم شعثي وأحاول إحياء انتباهي،
(كان شابا مجتهدا، رمت به الظروف إلى مجاهيل الغربة من أجل العلم..
ورغم تصحر أحواله المادية إلا إنه لم يسمح لعجلة اليأس أن تدوس على طرفه..
ما هذا الصوت؟.. هاتفي المتنقل..من هذا؟ ..
- تفضل يا مديري..
- .....................
- حاضر.. حاضر...سأفعل كل ذلك غدا إن شاء الله
وأغلقت الهاتف..بعصبية لأن معظم وقتي ذهب سدى ولم يبق إلا القليل وقد أصبح الجو حارا فيجب تشغيل التكييف، وهل هناك أفضل من التكييف الطبيعي، لكنه خطر؛ فالرصاص والجواسيس في كل مكان...
ااااه .. أين كنت؟.. نعم
(كان شابا مجتهدا، رمت به الظروف إلى مجاهيل الغربة من أجل العلم.. ورغم تصحر أحواله المادية إلا إنه لم يسمح لعجلة اليأس أن تدوس على طرفه..
وبينما هو عائد من جامعته مرهقا ذات يوم ، يفكر في إفراغ أثقاله من تعب الدراسة على فراشه، وغسل مخه بحبيبات النوم اللطيف، كانت تتنازعه الهواجس والأفكار والحنين إلى الديار، والأهم من هذا كله وضعه المادي الذي يزداد سوءا يوما بعد يوم
طق طق طق
يوما بعد يوم
طق طق طق
يوما بعد.. قبل يوم
بعد يومين
طق طق طق
اووووووووووووف .. من بالباب؟
- الطعام جاهز .. هيا بسرعة
يوما بعد يومين والطعام جاااااهز والمعدة خاوية على عروشها
يا إلهي! ماذا أكتب؟
لا يمكن كتابة قصة في هذه الظروف
لا يمكن... لا يمكن
لا أريد أن أكتب قصة
لا..
أريد أن أكتب